فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البقاعي:

{في المحيض} أي زمنه، وأظهره لئلا يلبس لو أضمر بأن الضمير لمطلق المراد بالأذى من الدم فيشمل الاستحاضة وهي دم صالح يسيل من عرق ينفجر من عنق الرحم فلا يكون أذى كالحيض الذي هو دم فاسد يتولد من طبيعة المرأة من طريق الرحم ولو احتبس لمرضت المرأة، فهو كالبول والغائط فيحل الوطء معه دون الحيض لإسقاط العسر. اهـ.

.قال الفخر:

اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة، واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة، فنقول: إن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه، بل من يقول: إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه، يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع، أما من يفسر المحيض بالحيض، كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض، ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة، فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة وبالله التوفيق. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله} فاعلم أن قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي ولا تجامعوهن، يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} ويمكن أيضًا حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله: {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} نهيًا عن المباشرة في موضع الدم وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} يكون نهيًا عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله تعالى: {حتى يطهرن}:
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب الحضرمي، وأبو بكر عن عاصم {حتى يطهرن} خفيفة من الطهارة، وقرأ حمزة والكسائي {يَطْهُرْنَ} بالتشديد، وكذلك حفص عن عاصم، فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها، وذلك إذا انقطع الحيض، فالمعنى: لا تقربوهن حتى يزول عنهن الدم، ومن قرأ: {يَطْهُرْنَ} بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله: {يأَيُّهَا المزمل} [المزمل: 1]، و{يا أيها المدثر} [المدثر: 1] أي المتزمل والمتدثر وبالله التوفيق.
المسألة الثانية مجامعة الزوج زوجته بعد غسلها من الحيض:
أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} جاء النهي عن قربانهن تأكيدًا للأمر باعتزالهن وتبيينًا للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القِربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة: {ولا تقربوهن} مفصولة بدون عطف، لأنها مؤكدة لمضمون جملة: {فاعتزلوا النساء في المحيض} ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتمامًا بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصودًا بالذات معطوفًا على التشريعات.
ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرِب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمِع متعديًا إلى المفعول؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرُب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة، لأن فيها قربًا ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال، كما قالوا بَعُدَ إذا تجافى مكانه وبَعِدَ كمعنى البُعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يَبْعَدْ. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في المراد بقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} وفيه وجوه الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة: فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به، ولا تؤتوهن في غير المأتي، وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أي في حيث أمركم الله، كقوله: {إِذَا نُودِىَ للصلاة مِنْ يَوْمِ الجُمعة} [الجمعة: 9] أي في يوم الجمعة.
الثاني: قال الأصم والزجاج: أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن، وذلك بأن لا يكن صائمات، ولا معتكفات، ولا محرمات الثالث: وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة {حَيْثُ} حقيقة في المكان مجاز في غيره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ورجح الطبري قراءة التشديد قائلًا: لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله: {فإذا تطهرن}.
وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله: {فإذا تطهرن} على المعنى الشرعي، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب علماء المالكية ونظَّروه بقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لاسيما على قراءة: {حتى يطَّهَّرْن} حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكِّد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فَأْتُوهُنَّ} مَعْنَاهُ فَجِيئُوهُنَّ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْوَطْءِ، كَمَا كَنَّى عَنْهُ بِالْمُلَامَسَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعْفُو وَيُكَنِّي، كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ.
وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَقَدْ كَانَ يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا} لَوْلَا قَوْلُهُ: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} فَإِنَّهُ خَصَّصَهُ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: وَفِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ نُهُوا عَنْهُنَّ.
الثَّانِي: الْقُبُلُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
الثَّالِثُ: مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
الرَّابِعُ: مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ.
الْخَامِسُ: مِنْ قَبْلِ النِّكَاحِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ.
السَّادِسُ: مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ الْإِتْيَانَ، لَا صَائِمَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ؛ قَالَهُ الْأَصَمُّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَمَا كَانَ النَّهْيُ جَاءَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِ؛ فَبَقِيَ تَحْقِيقُ مَوْرِدِ النَّهْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْقُبُلُ، فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْبَغَ وَغَيْرِهِ؛ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ جَمِيعُ بُدْنِهَا فَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ}؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ؛ فَيَعْنِي بِهِ إذَا طَهُرْنَ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْفَرْجِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفَرْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ شِئْت فَرَكِّبْهُ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا يَتَرَكَّبْ؛ فَمَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ فِيهِ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ النِّكَاحُ، فَضَعِيفٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {النِّسَاءَ} إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْأَزْوَاجَ اللَّوَاتِي يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ فِيهِنَّ بِحَالَةِ الْحَيْضِ.
وَأَمَّا السَّادِسُ: فَصَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَطْئِهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَدِلَّتِهَا؛ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْآيَةُ بِحَالِ الطُّهْرِ، كَمَا اخْتَصَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} يَعْنِي: فِي حَالَةِ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّهَا مُرَادَةٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَهُ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمَلٍ فِي اللَّفْظِ مُرَادًا بِهِ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَافْهَمْهُ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فأتوهن} الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقِربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قُفِّيَ بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.
وقوله: {من حيث أمركم الله} حيث اسم مكان مبهم مبنيٌ على الضم ملازمٌ الإضافة إلى جملة تحدده لِزوال إبهامها، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولًا إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي من بمعنى في ونظره بقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} [الأحقاف: 4] وقوله: {وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسُّدي وقتادة أن المعنى: من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر، فحيث مجاز في الحال أو السبب ومن لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.
والذي أراه أن قوله: {من حيث أمركم الله} قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل، وأما {حيث} فظرف مكان وقد تستعمل مجازًا في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب {حتى} في قوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن، و{من} للابتداء المجازي، و{حيث} مستعملة في التعليل مجازًا تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر.
أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح، فحرف {من} للتعليل والسببية، و{حيث} مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. اهـ.